لماذا تنزعج الحكومات من الإخوان؟
قبل أيام كتب الإعلامي السوري أحمد موفق زيدان الذي يشغل منصب مستشار الرئيس السوري مقالاً حول "حلّ" جماعة الإخوان السورية، وأشار في المقال أنه يمثل شخصه ولا يمثل وجهة نظر الحكومة السورية الحالية، ولكن كتابة مثل هذا المقال في مثل هذا التوقيت يضع الكثير من علامات الاستفهام على مثل هذا الطرح من شخص مستشار الرئيس، حيث جرت العادة أن تستخدم النظم السياسية شخصيات مقربة منها لجس النبض حول بعض الأفكار التي قد تسبب اشكاليات للنظام السياسي وذلك لقراءة رد فعل الجماعة والمجتمع حول هذه الفكرة، فكيف وكاتب مقال موظف في الدولة عند رأس الهرم.
ويأتي مقال زيدان رغم الأدوار المحدودة التي تقوم بها جماعة الإخوان في سوريا وهو ما ذكره في مقاله، وذلك بسبب الحرب عليها منذ وصول نظام الأسد إلى الحكم في بداية السبعينيات -حين كان المراقب العام الشيخ عصام العطار رحمه الله- وحتى سقوط النظام قبل أشهر، بالإضافة إلى التحولات الكبيرة التي حصلت لفكر الإخوان حيث انحرفت عن مسارها وفكرتها الأصلية على الأقل في الآليات المتبعة والخطاب المطروح.
هذه الدعوة لحل جماعة الإخوان السورية سبقها دعوات كثيرة لحل جماعة الإخوان الأم وأشهرها دعوة الدكتور عبدالله النفيسي لحل جماعة الإخوان المصرية، وفي الحقيقة لا يمكن فهم مثل هذه الدعوات خارج سياق تأثير الأنظمة الحاكمة ومواقفها من هذه الحركة الكبيرة، والمقصود هنا ليس الطعن فيمن يدعون إلى حل الجماعة وأغلبهم كان من أعضاء الجماعة في يوم من الأيام، وإنما المقصود أن مثل هذا الطرح وهذه القناعات تتولد بسبب موقف الحكومات من هذه الجماعة، لذلك نطرح هذا السؤال لماذا تنزعج الحكومات من الإخوان؟
مع الإشارة إلى أن هذا لا يعني سلب حق النقد للإخوان أو لغيرهم، فلأي شخص أن ينتقد الاخوان فهم كغيرهم من الجماعات البشرية لهم اجتهاداتهم وعليهم ملاحظات وسلبيات، ولهم إيجابيات وانجازات معروفة ومشهودة، أما محاولة تشكيل حالة من الضغط العام عبر الرأي العام لحل هذه الجماعة أو تلك فليس من المنطق السليم ولا من التصرف الحكيم، خصوصا إذا كان الهدف بناء نظام تعددية ومشاركة مجتمعية وسياسية، لأن الجماعات الإسلامية مثل الإخوان هي في أساسها جماعات تؤمن بشمولية الإسلام والسياسة جزء منها، فهي لا تشبه جبهة النصرة والحركات الجهادية التي أنشئت لأهداف سياسية، لذلك فمن غير المعقول الدعوة لحلها لأسباب سياسية فقط والمنطق السليم في التعامل مع أخطائهم يقتضي النقد لا الإقصاء لهم ولغيرهم من الجماعات الإسلامية التي لا يمكن ان يسد ثغرها أحد من الجماعات وحتى مؤسسات الدولة في الجوانب الدعوية والتربوية والاجتماعية والخيرية وغيرها، بل يمكن للدولة الاستفادة من جهودهم ونشاطهم.
وبالعودة إلى التساؤل الأهم والذي يولد مثل هذه الدعوات سواء كان بتأثير مباشر أو غير مباشر للنظم الحاكمة، "لماذا تنزعج الحكومات العربية من الإخوان؟"
من يفهم طبيعة حركة الإخوان ويقرأ في أدبياتها، ويفهم طبيعة النظم الحاكمة في الوطن العربي يمكنه الوصول إلى أن الحكومات العربية تنزعج من الإخوان المسلمين لعدة أسباب متداخلة، تختلف من بلد لآخر بحسب طبيعة النظام السياسي والسياق التاريخي، لكن يمكن تلخيصها في أربع محاور رئيسية:
أولا: التنافس على الشرعية والمرجعية، حيث أن الإخوان يطرحون أنفسهم كحركة إسلامية شمولية ذات بعد دعوي وتربوي وسياسي ومجتمعي، وتحمل مشروعاً سياسياً واجتماعياً ينافس شرعية الدولة الوطنية الحديثة، وهذا في أساس تكوين جماعة الإخوان رغم أن الجماعة انحرفت عن هذا المسار في العقود المتأخرة بعد محنة السجون التي مرت بها الجماعة في مصر وسوريا وغيرها من البلاد العربية، وهذا يعني أن الحكومات المستبدة ترى في الإخوان منافساً مباشراً على عقول الناس وولائهم، فالدولة الحديثة في طبيعة تركيبها تحاول احتكار كافة الخدمات التعليمية والتربوية والصحية وكافة المجالات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية وتحاول التوغل في الحياة المدنية، وإذا أضفنا إليها الاستبداد فإن الدولة المستبدة الحديثة تحاول احتكار كل شيء وصولا إلى فكر الناس أيضا وهو ما يتداخل مع فكرة ومنهج حركة الإخوان.
ثانياً: القاعدة الشعبية والتنظيم، الإخوان يتميزون بقدرة على التنظيم وبناء قواعد جماهيرية واسعة عبر الجمعيات الخيرية والتعليم والنقابات وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وهذا النفوذ الاجتماعي يعطيهم وزناً سياسياً يتجاوز أحياناً قوة الأحزاب التقليدية، مما يقلق الأنظمة المستبدة في الدولة الحديثة التي تريد السيطرة الكاملة على المجال العام.
ثالثا: الخطاب العابر للحدود على خلاف معظم الأحزاب الوطنية فإن خطاب الإخوان يتجاوز الحدود القطرية إلى خطاب "الأمة". وهذا يجعل الحكومات القُطرية تعتبرهم تهديداً لسلطتها، إذ قد يخلق ذلك ولاءً مزدوجاً عند المواطنين (للدولة وللأمة)، ويضعف فكرة “الوطنية” بالمعنى الضيق التي تحرص الأنظمة على ترسيخها ليسهل عليها قيادة الناس وتوجيهها نحو أهداف السلطة الحاكمة.
رابعاً التجارب السياسية السابقة للإخوان في بعض الدول، حين وصل الإخوان أو فروعهم للسلطة واجهوا صداماً مع مؤسسات الدولة العميقة أو مع قوى محلية وإقليمية، ما رسّخ لدى الأنظمة فكرة أن وجودهم يهدد استقرار النظام القائم، كما أن التحالفات أو العداء مع الغرب لعبت دوراً مهماً في الخوف من وصول الإخوان الذين قد يغيروا سياسات خارجية مستقرة في ظل النظم الحالية أو يفتحوا ملفات حساسة للغرب (إسرائيل، القواعد العسكرية، إلخ).
لذلك فإن الحكومات تنزعج من الإخوان كفكرة أساسية بغض النظر عن تطبيقاتها الحالية في الدول القطرية، لأن الجماعة في تصوراتها تمثل مشروعاً شاملاً منظماً، له قاعدة شعبية واسعة، وخطاب يتجاوز الحدود القُطرية، وهو ما يُعتبر تهديداً مباشراً لاحتكار الأنظمة للسلطة والشرعية.
ويأتي هنا تساؤل مهم: هل يحاول النظام في سوريا التحول إلى نظام حكم شمولي مستبد كباقي النظم العربية لذلك يخشى على شرعيته من الإخوان؟ لأن الإخوان بطبيعة فكرهم المرنة والمعتدلة يمكنهم الانسجام في نظام فيه التعددية والتشاركية، ولكنهم سيكونون عقبة تهدد شرعية النظم المستبدة حيث ترى الشعوب من خلالها البديل المحتمل.
وهنا إشارة مهمة يجب التنبيه إليها وهو أن هذا العداء والانزعاج من الإخوان من قبل الأنظمة العربية يتم بالرغم من تحول الإخوان من الدور الأممي إلى الدور الوظيفي في الدول القطرية.
وهذه التحولات تمثلت فيما يلي:
أولا: من خطاب الأمة إلى خطاب الدولة القُطرية، في بدايات الإخوان كان خطابهم يقوم على وحدة الأمة الإسلامية وتجاوز الحدود الاستعمارية، هذا الخطاب بطبيعته يضعهم في مواجهة مباشرة مع الدولة الوطنية الحديثة، التي تأسست بعد سقوط الخلافة على مبدأ الحدود القطرية والسيادة المنفصلة، والحكومات حينها رأت في هذا التوجه تهديداً مزدوجاً:
1. تهديد للسيادة القُطرية، لأن الجماعة تستمد شرعيتها من الأمة لا من الدولة.
2. تهديد للهوية الرسمية، لأن الجماعة تطرح الإسلام كمشروع شامل منافس للهوية "الوطنية" أو "القومية".
ثانيا: تحول الجماعة إلى الدور الوظيفي، مع ضغط الأنظمة وقمعها، وجدت الجماعة نفسها مضطرة – في كثير من الحالات – للاندماج في الأطر القُطرية، وقبول منطق الدولة الوطنية، هذا التحول جعل الإخوان ينتقلون من مشروع أممي إلى أدوار وظيفية داخل كل دولة من خلال المشاركة في الانتخابات ضمن الدستور القُطري لدول مستبدة، والتركيز على الإصلاح الاجتماعي والخدمات المحلية، والقبول بالتحالفات المرحلية حتى مع أنظمة علمانية، وهذا التحول كان من المفترض أن يخفف التهديد الوجودي للدولة من الخطاب الأممي، لكنه أظهر تهديد آخر وهو قدرة الجماعة على منافسة النظام نفسه في ساحة السياسة الداخلية.
لذلك حتى بعد تحول الإخوان إلى أدوار أكثر وطنية، بقيت الأنظمة منزعجة للأسباب منها:
التنظيم حيث تملك الجماعة شبكة ممتدة ومنضبطة، وهو ما لا تملكه معظم الأحزاب التقليدية وحتى الجماعات الإسلامية.
الشرعية الشعبية: الجماعة تُقدَّم نفسها كصوت “الإسلام الشعبي”، ما يجعلها منافساً شرعياً للنظام واثبتت التجارب شعبية الاخوان في الانتخابات المتعدد في الوطن العربي والتي يكتسحها الإخوان غالباً.
البُعد الأممي: رغم القبول بالقطرية، تبقى فكرة الأمة حاضرة في أدبيات الجماعة، وهذا يثير مخاوف الأنظمة دائماً من عودة الخطاب العابر للحدود.
وهذا التخوف من والإخوان لم يمنع الأنظمة من استخدام الإخوان وقت الحاجة حيث استخدمت الأنظمة الإخوان وظيفياً لمواجهة خصوم آخرين كما في التحالفات القصيرة مع بعض الحكومات العربية في الأردن والمغرب وغيرها، ولكن في لحظة توسع نفوذ الإخوان وتحولهم من أداة إلى منافس مستقل، تعود الأنظمة لتعتبرهم تهديداً يجب إقصاؤه، وهذا يفسر التذبذب بين التوظيف والقمع حيث تكون في المعارضة الجماعة مفيدة للضغط على خصوم النظام، أما في السلطة أو على أعتابها تكون الجماعة خطر يجب التخلص منه.
لذلك فإن انزعاج الحكومات من الإخوان ليس فقط بسبب رؤيتهم الأممية، بل بسبب مفارقة التحول نفسه فهم حين حملوا خطاب الأمة: تحدّوا شرعية الدولة القُطرية، وحين قبلوا بالدولة القُطرية: أصبحوا منافساً على الحكم داخلها، وبذلك فهم في كلتا الحالتين يشكلون إزعاجاً بنيوياً للأنظمة المستبدة، سواءً كأمميين أو كفاعلين وطنيين لأنهم جماعة ترى شمولية الإسلام وتعمل في كافة المجالات والقطاعات.
وإذا كان من نصيحة للإخوان فهي بضرورة العودة إلى منهجهم الأصيل والعمل بما يتوافق مع الأسس التي قامت عليها الجماعة، وترك أحكام الاضطرار التي حولت نهج وسير الجماعة عن هدفها الاستراتيجي، وتجنب الدخول في ردود الأفعال على كيد الأنظمة والحكومات التي تحرفهم عن المسار وهذا ما تنبأ به مؤسس الجماعة حسن البنا رحمه الله:
"أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقي منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات علي السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرع الغاصبون بكل الطرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين علي قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون، وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان".