خطاب النبي ﷺ بعد المعارك والغزوات
خطاب النبي ﷺ بعد المعارك والغزوات
تاريخ النشر: - مقالات اقتصادية وسياسية

خطاب النبي ﷺ بعد المعارك والغزوات

بين العِزّة والفخر بنصر المقاومة

والرَّحمة والشعور بضحايا غزة

تمرّ الأمة اليوم بمرحلة من أصعب مراحلها، بعد حربٍ أظهرت ملامح البأس والبطولة في غزة، لكنها كشفت كذلك حجم الجراح الإنسانية العميقة التي خلفتها هذه الحرب، وكشفت أيضاً تخاذل عربي وإسلامي تقوده الأنظمة عن نصرة المستضعفين، هذا التخاذل نشر خطاباً يبرأ ساحته بطريقة ملتوية تستغل الجانب الإنساني الذي خلفته هذه الحرب، فكان هنالك لوم دائم للمقاومة من المتخاذلين الذين يبررون عجزهم وتخاذلهم بالجانب الإنساني في غزة، فيكثر حديثهم في جانب واحد جانب الضحايا والدمار ويتعمدون الصمت وإخفاء مشاهد العزة والنصر التي قام بها شعب غزة وهم يسندون مقاومتهم التي آلمت العدو وأثخنت فيه الجراح.

وفي خضمّ هذا المشهد، تتبدّى الحاجة إلى ميزانٍ دقيقٍ يستلهم من سيرة النبي ﷺ كيف كان خطابه بعد المعارك؟ المعارك التي كان نصره فيها واضحاً كبدر، والمعارك التي كان النصر الظاهري فيها للأعداء كأحد، وما كان فيها من تضحيات عظيمة، ذلك الخطاب الذي يجمع بين عزّة الإيمان ورحمة الإنسان، فلا يُغرق في نشوة النصر حتى ينسى آلام الجرحى والمكلومين، ولا يغرق في الحزن حتى ينسى أن هذه الدماء الزكيّة هي وقود الكرامة والعزة والنصر.

كان خطاب العِزّة والثَّبات في سيرة النبي ﷺ واضحاً، لم يكن النبي ﷺ بعد المعارك يحدّث الناس بلغة الضعف أو الانكسار لأن الضحايا كانت كبيرة، بل كان يغرس فيهم معنى الثبات والعزة، حتى في أقسى لحظات الجراح والآلام كما في غزوة أُحد التي استشهد فيها سبعين من الصحابة بينهم عمه حمزه وأقرب أصحابه إليه، وأصيب فيها النبي ﷺ وكسرت رباعيته وشج رأسه، وكان يقول ﷺ وهو يمسح الدم عن وجهه: «كيف يفلح قوم شجّوا نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟، ولكنه رغم هذا المصاب حين انكفأ المشركون صلى الظهر بالصحابة جالساً وقال لأصحابه: «استووا حتى أثني على ربي» فصار الصحابة خلفه في صفوف وأخذ يدعوا الله ويثني عليه ويحمده ويشكره، فأعاد للأمة توازنها المعنوي والنفسي بعد هذه المعركة الشديدة على المسلمين.

وحين أتى أبوسفيان ليحطم معنويات المسلمين وصعد الجبل وصاح: اعل هبل، فاختار النبي ﷺ عمر أشد الناس وأقواهم وأكثرهم عزة وأنفة فقال النبي ﷺ: قم يا عمر، فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار.

وفي غزوة الأحزاب التي بلغت القلوب فيها الحناجر، لما رجع ﷺ إلى المدينة قال: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم، هذه الغزوة التي كان المنافقون يقولون إن أحدنا لا يستطيع أن يقضى حاجته ومحمد يعدنا بقصور كسرى وقيصر.

فخطاب العزة والكرامة ورفع المعنويات ليس خطاباً شعبوياً لتخدير العقول وتجييش العواطف، بل هو خطاب البناء والتربية على القوة والعزة والكرامة التي يجب أن يعيشها المؤمن في كل لحظات حياته حتى في لحظات الألم والانكسار، فالمؤمن يموت عزيزاً أو يعيش وهو كريماً مرفوع الرأس، كما كان يقول أبوعبيدة: "وإنه لجهاد نصر أو استشهاد" فهو منتصر في كل حالته،

هذا كان خطاب ما بعد المعارك عند الرسول ﷺ، عزة بلا غرور وواقعية بلا انكسار وثقة بلا طغيان.

أما في الجانب الآخر فهناك خطاب الرحمة والمواساة في الميدان الإنساني، فلم تكن تلك العزة تخلو من الرقة والرحمة والشعور بضحايا المعركة، فقد كان ﷺ أرحم الناس بالجرحى والشهداء والأسرى، بعد أُحد، وقف ﷺ على جسد عمّه حمزة ودمعت عيناه، ومر بنساء عبد الأشهل يبكين شهدائهم، فقال رسول الله ﷺ لكن حمزة لا بواكي له، فجاء نساء الأنصار يبكين حمزة، وأوصى بدفن الشهداء بإكرام.

وفي تعامله مع أبناء الشهداء حين دخل عليه أبناء جعفر بكى النبي ﷺ واحتضن أولاد جعفر وقال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم، وقال لأمّهم أنا وليهما في الدنيا والآخرة، وفي رواية أن النبي ﷺ لما قتل زيد في مؤته ذرفت عيناه وبكى، وقال لأسامة بن زيد لما أبطأ عليه بعد استشهاد والده: ما أبْطَأت عنا ثم جئت تحزننا؟.

وأوصى بتجهيز المجاهدين والقيام في أهلهم واعتبره من الأعمال العظيم التي تعادل الجهاد نفسه حين قال: من جهّز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا.

بهذه المواقف الإنسانية جمع النبي ﷺ بين القوة في الميدان والرحمة في المآل، ليُقيم توازنًا بين مقتضيات الحرب ومبادئ الرسالة الإنسانية العظيمة التي جاء بها.

واليوم وبعد حرب غزة يواجه المسلمون مشهدًا قريبًا من ذلك الذي شهده المسلمون في غزواتهم، نصرٌ معنويٌّ عظيم أعاد للأمة ثقتها بقدرتها وفتح الله على يد المقاومة فتوح عظيمة وأعاد قضية المسلمين الأولى إلى الواجهة مرة أخرى وجعلها تدخل كل بيت في العالم، وأذل الاحتلال بكل جبروته وأسلحته والتكنولوجيا التي تدعمه بها كل دول العالم، يقابله ألمٌ إنسانيٌّ بالغ من الدمار والشهداء والجرحى والمصابين.

إنَّ هدي النبي ﷺ يُرشد إلى طريقين متكاملين، طريق العزة والكرامة في الخطاب الإعلامي والسياسي الذي نواجه به أنفسنا والعالم، يبرز فيه الصمود والبطولة والإيمان بعدالة القضية، لأن هذا يُحيي روح الأمة ويُقوّي جبهتها الداخلية المعنوية والنفسية.

وطريق الرحمة في العمل الميداني والإغاثي والاجتماعي، بحيث يواسي المسلمون الجرحى، ويرعون أسر الشهداء، ويضمدون الجراح، ويزرعون الأمل، فإذا كان هناك تقصير في نصرة المقاومة في حربها وحيدة في الميدان تصارع قوى العالم لوحدها، فلا أقل من أن يقوم المسلمون بهذا الدور الإنساني في هذا الوقت.

وبهذا الجمع تخرج صورة متكاملة توازن “النصر” بملامح “الوجع”، ليتكاملان في بناء وعيٍ جديدٍ يَنهض من ركام المعاناة بثقةٍ وإيمان راسخ وقوي.