إرادة غزة الفاضحة كنت في رحلة علاج إلى ألمانيا والتقيت بطبيب باطني فلسطيني شاب في العقد الثالث من العمر يكمل دراسته في آخر سنة في المستشفى الجامعي في تخصص جراحة القلب ويعمل كطبيب في مستشفى آخر ، جرى بيننا حديث ليس بالطويل جداً ولكن ماعرفته عن هذا الشاب أنه جاء إلى ألمانيا بعد تخرجه من الثانوية وتزوج من طبيبة أسنان فلسطينية تحمل الجنسية الألمانية ، ولكن ما لفت انتباهي واعجابي أن هذا الشاب لاينظر لكل هذه الميزات التي يحصل عليها من قدرته على الحصول على جنسية اوروبية ولكنه يرفضها ، ووظيفة مرموقة في مستشفى عالمي ، وراتب محترم ، وسكن ، وتأمين صحي وغيرها من الميزات التي يحصل عليها الطبيب الألماني إلا كوسيلة للبلوغ لهدفه ؟! ياترى ماذا كان هدفه ؟! هدفه كان غزة ، كان يريد العودة إلى غزة ولعله الآن في غزة يداوي جراح أبنائها ويعيش معاناتهم .. غزة تلك المدينة الصغيرة المحاصرة التي لاتملك نفط الخليج ولا أموالهم ، ولاتملك موراد مصر ولا مساحة الجزائر تتفوق على جميع الدول العربية بل وبعض الدول المتقدمة في بناء الإنسان ، ذلك الإنسان الغزاوي الذي يعاني من الحصار الجائر من الجار والشقيق قبل العدو اللئيم ، ولكنه يملك إرادة قوية تحطم الصخر وصدق سعيد البيطار حين سما مسرحيته ب "نساء غزة وصبر أيوب" يروي فيها بطولات نسائهم فكيف برجالهم الأشاوس في النزال ، علماً أن المرأة في عزيمتها لاتقل عن الرجل بشيء بل قد تفوقه ! غزة التي حققت المستحيل حين أثبتت أنها لوحدها من بين دول العرب من تملك إرادتها ، وهي بذلك فضحت حكومات الاستبداد في عالم العرب ، فضحت عمالتهم وخيانتهم للأمة ولشعوبهم ، هذه الحكومات التي يقتات مسؤوليها على أموال شعوبهم ويوزعون عليهم الفتات على شكل مكرمات وهبات ليظهروا أمامهم أنهم أصحاب المنة والفضل ، سلبوا إرادة شعوبهم وصادقوا عدو أمتهم ، وحين فكرت بعض الشعوب بتحرير إرادتها من قبضتهم تآمروا بأموال النفط عليها وسفكوا من دمائها أكثر من ما سفكه بنو صهيون طول مدة احتلالهم لفلسطين ، ووجهوا ألسنتهم تجاه المقاومة التي ترد كيد المعتدين الصهاينة ، فلم ينصروهم ولا سكتوا عنهم وصدق فيهم قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) شعب غزة حين اختار حماس لإدارة شأنه السياسي كان يدرك أنه قد يتعرض لكل هذا الحصار الجائر من الصديق قبل العدو ، ولكنه آثر الكرامة والإرادة والحرية على أن يكون تابعاً مستعمراً لأحد ! وحين ملك شعب غزة الأبية إرادته صنع الصواريخ والطائرات وحفر الأنفاق وأبدع في كل مجالات الحياة ، انه شعب احترف الحياة .. - غزة فضحت دول الأمية العربية رغم المليارات التي تصرف على الجامعات والمدارس حين كانت نسبة الأمية فيها أقل نسبة في العالم .. - غزة فضحت المظاهر البراقة التي تقوم بها دول الخليج حين تبني الأبراج العالية والمراكز التجارية الفخمة والمصانع بأيدي أجنبية وأسيوية في حين أن غزة المحاصرة كانت تبني الإنسان ، الذي يستطيع أن يبني ويعمر بيديه ! - الإنسان في غزة يصنع اليوم طائرات بدون طيار ولايستوردها كما تفعل دول الخليج وتتباها بقدرتها على تشغيلها لإلهاء شعوبها بإنجازات وهمية .. وفضحت الجيوش العربية التي تستنزف ميزانيات الدول لمحاربة شعوبها بأسلحة مستوردة.. - الإنسان في غزة يصنع صواريخ قال عنها مرتزقة الأنظمة المستبدة أنها عبثية ولكن الحرب أثبتت أنها تستطيع أن تهز الكيان الصهيوني وتمنع السياحة وتؤثر على اقتصاده ، وتخترق قبته الحديدية ، وترعب بني صهيون ومن خلفهم .. - الإنسان في غزة في الوقت الذي تتباهى بعض دول الخليج بأكبر مدينة ملاهي سيبنيها الأسيويين كان يصنع بندقية يقنص بها الصهاينة تتفوق على البنادق العالمية في قوتها ودقتها ومداها ... - الإنسان في غزة يقف اليوم نداً للكيان الصهيوني .. الانسان في غزة حرم من المادة تحت الحصار من الجار والشقيق ولكنه منح حرية التفكير والإبداع والعمل فأبدع وأنتج لأنه اختار حكومة تحمل إرادتها بيدها لتمنحه حرية وإبداعاً وتنمية .. فهل عرفتم الآن لماذا يساند الغرب الديكتاتوريات في عالمنا العربي ؟! ولماذا تستميت الديكتاتوريات في محاربة ربيع العرب ؟! تخيلوا معي مصر وسوريا والخليج والعراق والجزائر والمغرب لو كانوا يمتلكون الإرادة والحرية ؟! على الهامش: **بالمناسبة أخبرني الطبيب الفلسطيني الشاب عن وجود أطباء عرب كثر عادوا لأوطانهم فلم يحصلوا على وظائف وتقدير من حكوماتهم فعادوا إلى ألمانيا وأحدهم طبيب إماراتي متخصص في الأنف والأذن والحنجرة يقصده المرضى من ألمانيا وخارجها قرر العودة لألمانيا للعمل فيها بعد أن لم يجد التقدير في وطنه !