كورونا بين النظريات الاقتصادية والمواقف السياسية
كورونا بين النظريات الاقتصادية والمواقف السياسية
تاريخ النشر: - مقالات اقتصادية وسياسية

كورونا بين النظريات الاقتصادية والمواقف السياسية

 "نحن نعتقد أنه بالنسبة لقائد على وشك أن يخوض معركة حربية ضد العدو، أنه من المهم أن يعرف عدد العدو، ولكن الأهم من ذلك أن يعرف فلسفة العدو"

ويليم جيمس(البرغماتية)

  مع انتشار مرض الكورونا المستجد وتحوله إلى وباء عالمي برزت حول العالم الكثير من الانتقادات حول تعامل الحكومات مع هذا الوباء العالمي، ولنفهم طبيعة هذه المواقف السياسية يجب أن نتفق أولاً أن لكل موقف (سواء كان سياسياً أو اقتصاديا أو اجتماعياً) أساساً فلسفياً ينطلق منه، وهذا لايعني بالضرورة أن تكون النظرية الفلسفية حاضرة في ذهن صاحب الموقف وقت اتخاذ القرار، وإنما هو نظام وطريقة في التفكير الجمعي لدى المجتمعات والحضارات تفضي إلى مثل هذه القرارات والتي قد يعتبرها البعض منطقية في حين أن الجانب الفطري في الإنسان ينظر إليها أنها لا أخلاقية.

نبذة عن أهم النظريات:

  الراصد لأسس بناء الحضارة الغربية المهيمنة على العالم اليوم يجد أن هناك عدة نظريات فلسفية في السياسة والاقتصاد ينطلق منها سلوك الدول والأفراد، وأهمها ثلاث نظريات يعتبرن أساس الكوارث في العالم في آخر مئتي عام، النظرية الأولى (المصلحة الفردية) لآدم سميث (١٧٢٣-١٧٢٠) حين تحدث عن اليد الخفية في الاقتصاد ومعناها ( أن المصلحة الفردية هي التي تحقق المصلحة الجماعية) ورغم اثبات فشلها من كينز وغيره بعد أزمة الكساد العظيم ١٩٢٩م، إلا أنها حاضرة بقوة مع كل أزمة اقتصادية، فهي من أسس تكوين النظام الرأسمالي، والنظرية الثانية (نظرية السكان) لتوماس مالتوس (١٧٦٦-١٨٣٤) التي قال فيها أن تزايد عدد السكان يفوق تزايد الغذاء في العالم فالسكان يزدادون بمتوالية هندسية، والغذاء يزداد بمتوالية عددية، ولم تكن المشكلة في تزايد أعداد البشر مقابل زيادة الموارد الطبيعية التي تعتبر أساس المشكلة الاقتصادية (مشكلة الندرة) فهي مسألة قابلة للنقاش ليس هنا مكانها، ولكن الطامة الكبرى كانت في اقتراحاته للحد من النمو السكاني والتي تسببت بكوارث إنسانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أولها إبادة السكان الأصليين في العالم الجديد والتعقيم القسري وآخرها هدم الأسرة وتحديد النسل التي نتج عنها مجتمعات الشيخوخة التي تعيشها أوروبا في هذه الأيام، وجدير بالذكر أن سميث ومالتوس يشتركان في كونهما "إنجليزيان" وأنهما قد عانا من مشاكل نفسية وصحية في طفولتهما، وأما النظرية الثالثة هي (البرغماتية) التي أرسى قواعدها الأمريكي الإيرلندي الأصل ويلم جيمس (١٨٤٢م-١٩١٠)، والعامل المشترك بين هذه النظريات الثلاث أنها نظريات مادية بحتة لا تستند إلى بعد أخلاقي، بل على العكس تماماً حين اعتبر أدم سميث الأخلاق والقيم عبارة عن خرافة في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية، واعتبر جيمس أن مقياس الصواب والخطأ هو ما نفعله لا ما نعتقد أنه صواب أو خطأ.

 أثر النظريات على الواقع:

  تم بناء المنظومات (التعليمية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية) في الغرب بناءً على مزيج من هذه النظريات وغيرها من النظريات الفلسفية، فصار العقل الجمعي الغربي يقر بأمور لا أخلاقية ولا إنسانية بمسوغ مصلحي فردي أو جماعي، وخطر هذه النظريات لم يقتصر على الآخر التي كانت نظريات الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) تعتبرهم درجة بدائية أقل من العالم المتحضر الذي يعيشون فيه، هذه النظريات عززت النزعة الفردية والمصلحة الذاتية فكلما ضاقت الدوائر ضاقت عليهم أنفسهم، فعلى المستوى العالمي في نظرهم هناك دائرة الدول المتحضرة ودائرة الدول النامية ودائرة الدول المتخلفة (البدائية)، وعلى مستوى المتجمعات ينظر للإنسان المنتج والصحيح المعافى الذي يحقق مكاسب مادية بدرجة أعلى من كبير السن أو المريض الذي قد يكلف الدولة أموالاً طائلة، وقد ظهرت هذه المواقف بشكل واضح في بريطانيا وإيطاليا في تعاملهم مع مرض كورونا المستجد عبر اتخاذهم سياسة مناعة القطيع التي أعلن عنها بشكل صريح بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا حين طلب من الناس توديع أحبابهم، ومناعة القطيع هي تطبيق عملي لنظرية مالتوس في السكان والذي يعتبر أن السكان يجب أن يحد من زيادتهم بالحروب والكوارث الطبيعية والأمراض، فترك المرض للانتشار بين الناس بحيث يموت من لا يستطيع تحمل المرض له فوائد من نظرتهم المادية البحتة، فإن الشخص الذي لا يستطيع تحمل المرض هو شخص غير منتج بل مستهلك، وعليه فالتخلص منه بإهماله أولى، قد تكون بريطانيا تراجعت عن هذه السياسة قبل أيام بعد ضغوطات، والتراجع لم يكن إنسانياً وإنما خشية حصول كوارث في النظام الصحي للبلاد وتأثر البلاد اقتصاديا، كما حل في إيطاليا من الشلل الذي حدث في النظام الصحي، فنتائج مناعة القطيع من الناحية الاقتصادية صار مكلفاً أكثر من الوقاية منه، أما في إيطاليا فإن الوضع صار خارج السيطرة وسياسة مناعة القطيع أثبتت فشلها وكارثيتها، وأمريكا تتجه الأوضاع فيها للخروج عن السيطرة كذلك.

  أما المعضلة الأخرى التي تعكس مادية النظام العالمي وبعده عن الأخلاق والقيم والإنسانية يتمثل في مرحلة انتاج اللقاح، والذي صار مجال تنافس واحتكار من قبل شركات معدودة حول العالم أغلبها يدور في فلك أمريكا وبريطانيا وأوروبا، وهذا التنافس غير الشريف اشكاليته في صناعة الاحتكار، فالشركة التي ستثبت اختباراتها نجاح لقاحها ستكون المحتكر الوحيد لهذا اللقاح في العالم وهنا مرة أخرى سندخل في دائرة غير أخلاقية وغير إنسانية في التعامل مع هذا المرض.

خلاصة

  إن اجتماع هذه النظريات في ذهنية العقل الغربي وامتدادها إلى العقل الشرقي وتطبيقاتها على أرض الواقع أفرزت نماذج مخزية تكشف حقيقة الوجه الزائف للحضارة الغربية، لذلك فإن الخلاصة من هذا المقال تقول أن العالم يستحق الأفضل، يستحق أفضل من النظام الرأسمالي ومن نظريات سميث ومالتوس وغيرهم من الذين صاغوا نظرياتهم عبر ظروف معينة عاشوا بها لا تتناسب مع هذا العالم الذي استخلفنا الله فيه، ولا مع الإنسان الذي كرمه الله وحمله في البر والبحر، وأنزل عليه كتاباً فيه أعظم النظريات، وأرسل إليه نبياً ما ينطق عن الهوى، الذي أرشدنا لنظريات وأسس وقواعد تجعلنا نتجاوز مصاعب الحياة بوصفة ربانية لا تتدخل فيها النزعات الفردية للإنسان، ولا تحكمنا أطماعه ولا يهلكنا جشعه، وهنا واجب على المفكر والعالم المسلم أن يجتهد ويبدع ويبتكر نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية وفق قيم ومبادئ وأخلاقيات الإسلام، وبالرغم من وجود إشكالية أخرى نواجها كمسلمين يحملون مشروعاً حضارياً للعالم، فليست المشكلة في الخروج بنظريات إنسانية وأخلاقية تتجاوز النظريات الغربية، وإنما تكمن مشكلتنا الأساسية في أننا لا نملك نظماً سياسية تتمتع بشرعية شعبية واستقلالية دولية تطبق هذه النظريات التي تعتبر طوق نجاة لهذا العالم، ومع هذا يجب أن نعمل حتى نأتي بذلك النظام الذي يطبق المشروع الحضاري الإسلامي، ففي السنة الماضية فقط صدر أكثر من كتاب لمفكرين واقتصاديين من الغرب يتحدثون عن إضافة البعد الأخلاقي على الاقتصاد بعدما أنهكتهم المادة المجردة.

إبراهيم آل حرم

I2alharam@gmail.com