أحد الأصدقاء يعيش في إحدى الدول القمعية التي تحاسب الفرد فيها على الكلمة والتغريدة والفكرة والسكوت، كنت أحادثه وأسأله عن أحواله وأحوال البلاد والعباد، بعد حوار غير قصير رد علي:" أعرف أن كلامي لن يعجبك ولكنا تكيفنا واندمجنا" رده هذا لازال يرن في أذني وأقلبه في عقلي، نفسه هذا الصديق في بدايات الاعتقالات في بلده كان يقول لي: "عند اعتقال أحد الذين اعرفهم كنت آخذ زاوية لا يراني فيها أحد وأبكي"، ما الذي حدث يا ترى؟
تأملت في الحياة والإنسان والمجتمعات والدول ثم رجعت إلى كتاب الله عز وجل المليء بقصص الاستعباد التي مارسها الطغاة عبر التاريخ وعلى رأسها قصة موسى مع بني إسرائيل الذين استعبدهم فرعون وكان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويسومهم سوء العذاب، وبالتحديد في وصف الله سبحانه وتعالى لحالهم حين نجاهم من فرعون وجنوده حين قال تعالى: "وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون"، فبالرغم من الجهد الذي بذله موسى لتخليصهم من الظلم والاستبداد وبالرغم من كل المعجزات التي ظهرت أمامهم لتخرجهم من الذل والاستعباد، إلا أن الإصرار على العبودية في قصة بني إسرائيل أمره عجيب جداً فهو ليس أمر مختص ببني إسرائيل وإنما هو شيء في طبيعة وتكوين البشر، ومدى قدرة الظروف من حولهم على تشكيلهم وتكوينهم.
وبعد هذا الموقف عبدوا عجل السامري، فهذه النفوس التي استمرأت الذل والهوان لا يمكن لها أن تكون حرة ولا يمكن لها أن تواجه عدواً حتى تستقل بأنفسها وتحكم نفسها، وظهر ذلك أيضا في بني إسرائيل حين رفضوا دخول الأرض المقدسة مع أن الله ضمن لهم النصر بمجرد دخولهم إليها، لذلك فرض الله عليهم التيه ٤٠ سنة، قال بعض العلماء حتى يستبدل الله هذا الجيل بجيل آخر لم يذق طعم العبودية ولم يعتاد على الاستعباد.
بالعودة إلى تاريخنا القريب نجد أن الجيل العربي الذي قاوم المستعمر الفرنسي والانجليزي والإيطالي في المنطقة كان جيلاً ثورياً بالرغم من أنه عاش الهزيمة وتمزق وحدة المسلمين وسقوط الخلافة لكنه جيل عاش على روح المقاومة والكرامة، ومن خلال هذه الروح دخل عليهم المستبدون وبددوا أحلامهم وأرغموهم على الاستبداد بالحديد والنار والقمع مرة، وبالإعلام والشعارات وقضايا الأمة مرة أخرى، مصر وسوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول العربية مرت بنفس السيناريوهات تقريباً بعد مرحلة الفوضى التي خلفها الاستعمار في المنطقة أتت ثورات صورية بحكم مستبد سلب أحلام الشعوب وأخضعها للاستبداد عبر أساليب الترهيب والترغيب، ولنأخذ مثالاً على ذلك في سوريا التي قاوم فيها الشعب الاستعمار الفرنسي كان لا يهدأ له بال إلى أن جاءهم المجرم حافظ الأسد ومارس عليه صنوفاً من الإجرام والتعذيب والاغتيالات الممنهجة وانتهاءً بمذبحة حماه في الثمانينيات مع سيطرة على مناهج التعليم والمنابر الدينية والاعلام فاستطاع عبر هذه الوسائل بمجموعها أن يخضع الشعب وأن يسلبه الإرادة وأن يجعله معتاداً على الاستعباد وقد يفخر بالعبودية في بعض الأحيان، و يصير حينها الأمر الطبيعي عنده هو الخضوع، والشذوذ عندهم أن يطالب الإنسان بحقه وحريته وكرامته، فالجيل الذي عاش في فترة القمع كان خروجه للثورة أصعب وأشق.
في فبراير ٢٠١١م ومع سقوط مبارك التقينا بالمناضل السوري في المهجر عصام العطار حفظه الله فقال له أحد الحضور هل سيثور الشعب السوري؟ قال نعم ولكن سيكونون من الشباب الذين لم يتشربوا الخوف من النظام بعد، وصدق فلم يمر شهر إلا والثورة السورية قد خرجت وخرج بها الشباب، لذلك فإن الثورات كلها بدأت بالشباب الذين لم يعتادوا على الاستعباد كما انطلق بالثورة السورية أطفال درعا وشبابها.
مع ثورات الربيع العربي استفاق المستبدون العرب على أجيال جديدة لم تعتد بعد على الاستعباد، تطالب بالمحرمات في عالم الاستبداد، هذه الأجيال لا تستقي معرفتها من مناهج التعليم أو خطب المنابر أو وسائل الإعلام الرسمية فكان لزاماً إعادة ترويضها وإخضاعها كما فعل بمن سبقهم، وهذا ما تقوم به الثورة المضادة في مصر والخليج اليوم في محاولة جادة لاستعباد الشعوب من جديد وقد ينجح مشروعهم على فئة معينة من الشعوب، فالوعي اليوم ليس كسابقه وإن كان في الوطن العربي يتقدم وفي الخليج لازال يتأخر.
كيف يتم تعويد الشعوب على الاستعباد؟
مع القبضة الأمنية المشددة والخوف على النفس والمال والأهل يبدأ الإنسان بأخذ رخصة انكار القلب على الجرائم التي ترتكب على من حوله، والصمت على مخالفة قيمه ومبادئه، ومع الأيام يبدأ بالتبرير لهذا الظلم فيضع لنفسه المبررات على سكوته عن انتهاك قيمه وكرامته، ثم ينتقل لمرحلة لوم الضحية وهي حالة نفسية سببها الخوف من الوقوع في مثل ما وقع به الضحية، ثم ينتقل لمرحلة أخطر وهي التبرير للمستبد ممارساته وإجرامه وتأتي هذه المرحلة نتيجة أسلوب خبيث يستخدمه المستبدون بشكل كبير وكنت سابقاً أقول هل هذا المستبد أحمق حين يجبر الناس على تمجيده وهو يعلم أنه في قلوبهم يلعن؟
بعد قراءة الواقع بنظرة فاحصة مع قراءة بعض الدراسات النفسية وقعت عيني على نظريات غولبز وزير هتلر صاحب المقولة الشهيرة : "اكذب واكذب واكذب حتى يصدقك الناس" رأيت أن هذا التكرار العلني والمستمر في التعبير عن ولائهم لهذا المستبد أو ذاك وذكر محاسنه التي كانوا يعلمون أنها كذبات كبيرة تصبح هي اللغة الوحيدة والسائدة في حياتهم، ويصبح الإنسان أسير لهذا المستبد وأجهزته الأمنية والرسمية إلا من حافظ على نفسه وهم قلة قليلة وجد واجتهد للبحث عن الحقيقة، لذلك تجد المستبدون يعتبرون من يصمت عن تمجيدهم اليوم مجرم ومن يصمت عن مباركة ظلمهم كالمنكر له!
فمهمة الإنسان في الحفاظ على نفسه اليوم من الاعتياد على الاستعباد في ظل أنظمة الاستبداد كمهمة المسلمون في أيام الاتحاد السوفيتي في الحفاظ على دينهم حيث كان المسلم يخفي إسلامه ومصحفه في مغارات الغابات والجبال ويذهب سراً لقراءة ورده وإقامة فرضه، هي حالة شبيهة بتلك مع فارق النوع، فهنا تربية النفس على الكرامة والعزة تجعل الإنسان يصل لمرحلة لا يحتمل فيها الذل إذا لم يعتاد عليه ولا يتحمل العبودية لغير الله إذا لم يألفها، فحذار من ألفة الذل والاستعباد!
إبراهيم آل حرم
i2alharam@gmail.com