في مثل هذا اليوم سنة ٢٠١٦م كنت في زيارة عائلية لأحد الأصدقاء القادمين إلى مدينة إسطنبول القسم الأوربي وكان معي زوجتي وأطفالي، فضلت الرجوع متأخراً من إسطنبول إلى المدينة التي أقيم فيها، فمن يعرف حركة المرور في إسطنبول يعلم جيداً أن يوم الجمعة من كل أسبوع يكون الازدحام شديداً فيه لمن يريد الخروج من القسم الأوربي من بعد الساعة الرابعة عصراً حتى العاشرة مساءً، لأن أغلب العاملين في مدينة إسطنبول ليسوا من أهلها كونها المركز التجاري في تركيا، فأغلبهم يخرج منها مساء الجمعة ويعود إليها مرة أخرى مساء الأحد، اخترت أن تكون عودتي بعد العاشرة مساءً تجنباً للازدحام، وبالفعل خرجت فيما يقارب الساعة العاشرة والربع وأنا في طريقي إلى (جسر البسفور سابقاً) جسر شهداء ١٥ تموز لاحظت ازدحاماً شديداً على غير العادة في مثل هذا التوقيت والسيارات تتحرك ببطء شديد، فتحت الهاتف وإذا بالأخبار تتحدث عن حركات مشبوهة في إسطنبول وبالتحديد على الجسر.
لاحظت أن الاتجاه المعاكس للدخول إلى إسطنبول لا يوجد به سيارات تتحرك، وبدأت أشاهد بعد أن مشينا بالسيارة قليلاً جنود من الجيش يحملون أسلحة ورشاشات، وبرفقتهم مدرعات عسكرية ودبابات على الطرف الآخر من الجسر، بدأ الحديث في وسائل التواصل عن الاشتباه في وجود انقلاب وكانت الساعة وقتها ١١:٣٠م تقريبا، وهناك من يقول أن القوة العسكرية الموجودة فوق الجسر لمنع الانقلابين من دخول إسطنبول، كان التوجس والخوف في عيون المارة مع حيرة وتساؤل عن هؤلاء هل هم مع أم ضد، في وسط هذه الحيرة شاهدت سيارة من نوع هونداي بيضاء تابعة للحكومة تمشي في الاتجاه المعاكس الخالي من السيارات، في هذه الأثناء قلت في نفسي لو مرت هذه السيارة فهذا يعني أن الجنود ضد الانقلاب وإن لم يدعوها تمر فهؤلاء من الانقلابين، وبالفعل أوقف الجنود سيارة الحكومة وأنزلوا من فيها أرضاً، هنا اتضحت الصورة وبان الأمر، وكان الجنود يجعلون السيارات تمر من الحواجز التي بعد الجسر بعد التدقيق على من فيها وكأنهم ينتظرون شخصيات حكومية مهمة لاعتقالها، لذلك كان الازدحام شديداً جداً وهذه الحواجز التي صنعوها كانت وبالاً عليهم فيما بعد، فهم ساهموا دون قصد في جمع الناس وتحشيدهم في أهم نقاط ارتكاز قوات الانقلاب.
بقي على الحاجز سيارتان وسيارتي الثالثة وحينها أقفل الجنود الحاجز بشكل نهائي ولاحظت أن من بين الجنود مدنيين يحملون سلاح الجيش على الحواجز، أعلن الانقلابيون بيانهم الأول في الساعة ١٢:١٣م، نزل الناس رجالاً ونساءً من سياراتهم، وبعدها بقليل في ١٢:٣٠م أو قبلها بقليل تحدث أردوغان للشعب وأمرهم بالنزول، كنت أشاهد الخطاب من الهاتف وأشاهد الناس تنزل من سياراتها في مشهد مهيب ومروع في نفس الوقت، نزل الناس باتجاه الحواجز وكل يحمل ما يقدر عليه، ووسط هذا الضجيج ارتبك الجنود على الحاجز وبدأوا بإطلاق النار في الهواء، وبدأ الشد والجذب بين الجنود وأفراد الشعب المتجمعين حتى أتى سائق شاحنة كبيرة مترجلاً على قدميه يمر بين السيارات ويقول كلاماً لم أفهمه، وأتى إلي بعد ذلك يكلمني، لم أفهمه جيداً ولكن ابني محمد ذو الثمان سنوات حينها، قال لي يقول لك الرجل: سنكسر هذا الحاجز بالسيارات، هيا اصعدوا إلى سياراتكم. وطلب من الجميع الصعود إلى سياراتهم والتحرك مرة واحدة حتى يتشتت الجنود على الحواجز ولايتمكنوا من إصابة أحد، وكان عدد المسارات ٧ أو ٨ انطلقت السيارات من الصف الأول ثم التي تليها، وهنا شعرت بهول الموقف حقاً فهؤلاء الجنود يطلقون النار على كل من يتحرك، ولكن مع الحركة المفاجئة للسيارات أصاب الانقلابين الذهول، وعندما وصلت إلى نقطة العبور طلبت من زوجتي وأبنائي خفض رؤوسهم حتى لا يصيبهم شيء لو أطلق أحدهم النار، ضغطت على البنزين بكل ما أوتيت من قوة والحمدلله عبرنا الحاجز، وبعدها بقليل كسر هذا الحاجز.
وكان الجنود يحاصرون الناس من جهتين جهة الجسر وجهة الحواجز، أما بعد هذه اللحظة فصار الناس يعودون للوراء ويقاومون الجنود الموجودين على الجسر وظهرهم محمي لا يوجد خلفهم أحد من جهة الحواجز، وهنا بدأت الأخبار تتوالى بانكسار الانقلاب واندحاره، ورأيت في الأخبار بعدها أن منطقة الحواجز التي كنا نقف فيها قد تحولت لساحة مواجهات وسقط فيها العديد من الشهداء تقبلهم الله في الصالحين، ذهبت بعدها للطريق المؤدي لمطار صبيحة فإذا هو مزدحم من مسافة تتجاوز الخمسة كيلومترات والرجال والنساء يتركون سياراتهم ويسيرون على أقدامهم جهة المطار، هنا أدركت أن الانقلاب سيفشل بإذن الله.
كنت في مصر وقت انقلاب السيسي على محمد مرسي رحمه الله ولست هنا للمقارنة بين الحالتين وقد أذكر شهادتي في ما رأيت من انقلاب مصر في مقال آخر، ولكن أهم ملاحظاتي التي شاهدتها في هذه الساعات التي قضيتها على جسر الشهداء وما بعده هي أن كلمة "الشعب" عامة جداً حين نطلقها ونقول الشعب قاوم الانقلاب أو الشعب ثار ضد النظام فالشعوب في نظري لا تثور وأغلبها يطلب السلامة على التضحية، لذلك فإن الحقيقة تتطلب منا أن نوضح أن الشعوب الحية هي التي تملك كتلة صلبة من النخب، وهم يمثلون نسبة لا تتجاوز ٥٪ من إجمالي الشعب، والنخب أو الكتل الصلبة ليسوا المشاهير أو المثقفين أو أصحاب المناصب أو السياسيين ورؤساء وأعضاء الأحزاب كما هو التعريف السائد، وإنما يمكننا تعريفهم بأنهم الأشخاص الذين يكونون مستعدين لأن يبذلوا أرواحهم رخيصة لأجل قضية أو فكرة يؤمنون بها، وقد يكونوا شباب ذكورا وإناثاً وقد يكونوا شيوخاً وعجائز، وقد يكونوا متعلمين وأميين، ولكن تجمعهم قضية وفكرة واحدة وهم مستعدين للتضحية من أجلها بالغالي والنفيس، فهذه الفئة متى ما وُجدت في شعب أو في تجمع بشري لا محالة سينتصر، وهذا ما شهدته في هذه الساعات، فهناك من الناس من كان في الطرقات قدراً ويستطيع مواجهة الانقلاب ولكنه كان يبحث عن طريق لينجو بنفسه ويختبأ في منزله، كما كان في المقابل هنالك أبطال كانوا في بيوتهم ومنذ أن سمعوا النداء للخروج خرجوا من أجل دحر الانقلاب، فالنجاح المهم الذي قام به الأتراك قبل الانقلاب بسنوات أنهم استطاعوا أن يصنعوا فكرة تجتمع حولها النخب الصلبة في المجتمع التركي وهي فكرة حماية الديمقراطية وحماية بلدهم من الانقلابات.
أما الملاحظة الثانية فكانت في مواجهة الانقلاب بالقوة، هذه النقطة لم يكن فيها خلاف أو جدال، فمسألت "لابد للحق من قوة تحميه" راسخة منذ اللحظة الأولى، ولولا الله ثم القوات الخاصة والمخابرات ومن شاركهم من الشعب ممن يستطيع حمل السلاح لكان هناك اتجاه آخر تسير فيه الأحداث، فالشعوب في الطرقات داعمة ومؤيدة ولكنها لا تستطيع إن تحسم المعركة، لذلك يجب أن يكون هنالك من يحميها، ولقد رأيتهم بزيهم الأسود وأجسامهم العريضة التي أرعبت الانقلابين يقاومون ويقاتلون من أجل شعبهم ودولتهم ولولا وجودهم لارتكب الانقلابيون مجازر تفوق ما ارتكبوه في هذه الليلة.
أما الملاحظة الثالثة فهو القائد الأمل، هم لا يقدسون أردوغان ولكن كانوا في تلك اللحظات يرون فيه الأمل الذي سينقذهم من الانقلاب، لذلك وثقوا به واستجابوا لكلامه ونزلوا للطرقات لحماية وطنهم، كما كانت كلمة هذا القائد مرعبة للانقلابين في الطرقات حين تحدث لشعبه، رأيتهم كيف خافوا وارتبكوا ففي المنطقة التي كنا فيها كانوا في حيرة، هل يتركون الناس تعبر الحواجز فتذهب لمناطق اعتصامات أخرى أو أنهم يبقون عليهم في الطرقات فيصنعوا بذلك تجمع يقاومهم على جسر الشهداء؟!
كما أن الشعب التركي من خلال تجاربهم معه يدركون أن لديه خطة بديلة لمواجهة الأزمات كما يحدث في كل مرة، فهو لايتعامل مع الأحداث بارتجالية مفرطة، بل يخطط ويتقن في عمله، فهم يثقون به كما يثقون بعدالة قضيتهم.
انقضى هذا الانقلاب في ليلة لم نستطع فيها النوم حتى رأينا اندحاره بشكل كامل في اليوم التالي، وكان لهذه المحاولة الانقلابية الفاشلة نتائج وآثار إيجابية كبيرة على تركيا واستطاعت أن تمضي نحو نهضتها بسرعة أكبر مما كانت عليه من قبل، حيث كان الخونة يعيقون حركتها ونهضتها في خدمة أعدائها، كما أنها تخلصت من الكثير من خونة الداخل وإن كان الخونة لا ينتهون، فإنها اكتشفت أعداء الخارج بصورة أكثر وضوحاً.