في منتصف التسعينيات ومع شدة الصراع بين الفكر الوسطي الذي يمثله الإخوان والسرورية والتبليغ، وبين الفكر المتشدد الذي كانت تمثله حركات سلفية متشددة مثل الجامية والمدخلية والقاعدة في منطقة الخليج وفي الإمارات والسعودية بالتحديد، كان هناك جيل ناشئ بدأ أول خطوات التعلم في حضور مجالس أهل العلم والندوات الفقهية والدورات الشرعية، وكانت سطوة الأفكار السلفية تستمد قوتها من تبني الدولة السعودية للمنهج السلفي المتشدد خصوصا بعد الاعتقالات التي حصلت للمجموعات الإصلاحية على رأسهم الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر وغيرهم من المشايخ الذين يمثلون التيار المعتدل في المنطقة.
ونتيجة للقواسم المشتركة كان معظم أبناء هذا الجيل وحتى المنتمين للجماعات المعتدلة يتبنون الفتاوى السلفية المتشددة، حيث كان لها سطوة قوية جعلت الكثير من المشايخ والدعاة غير المقتنعين بها يتجنبون الحديث عن مخالفتهم لها، خشية الوقوع في دائرة الجدل والهجوم من التيار السلفي المتشدد، والذي كان لا يتورع من ممارسة الإرهاب الفكري عبر إصدار الكتب والتسجيلات وإقامة الندوات والمحاضرات للطعن في عقيدة ودين من لا يوافقهم في آراء فقهية خلافية بين العلماء قديماً وحديثاً، وتعرض خلال هذه الفترة الكثيرة من العلماء الصادقين والمعتدلين للطعن والتشويه ومنهم الشيخ سلمان العودة فرج الله عنه، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي الذي أتى من بيئة علمية أزهرية منفتحة على آراء العلماء، متوازن وصاحب أساس فقهي وعقدي رصين، وبالإضافة إلى سعة أفق وثبات على المبدأ جعله منفتح في آراءه وثابت عليها رغم تبدل الأوضاع بعد ذلك، ولعل هناك ميزات أساسية في شخصية ومنهج الشيخ يوسف القرضاوي جعله ثابتاً رغم تبدل الأوضاع من التشدد المذموم إلى التفريط المحموم الذي تسارع فيه المؤسسات الرسمية.
ومن خلال النظر في كتب الشيخ وسماع محاضراته وخطبه نلاحظ أن الشيخ اجتمعت فيه صفات قلَّ ما تجتمع في عالم من العلماء في هذا العصر، وهي ما جعلته في صدارة علماء الأمة ومن أهمها باختصار:
- العلم الشرعي الغزير، وهذا يظهر في مؤلفاته الكثيرة والمتخصصة والتي شملت الكثير من أبواب الفقه والعقيدة والسلوك والدعوة والتصدي للأفكار الغربية والدخيلة، والتي تعد اليوم من أهم المراجع في أبوابها، وسعة اطلاعه على كافة المذاهب وآراء العلماء ظاهرة في فتاواه وكتاباته، فلم يقيد نفسه بمذهب إذا رأى الحق في غيره، ولم يقلد وإنما اجتهد وحث على الاجتهاد لمن توفرت لديه شروط المجتهد، وبحث ونقد وحلل المسائل العلمية بطرقها الشرعية السليمة والصحيحة والواضحة.
- الوعي وسعة الأفق وقراءة الواقع، فلم يقتصر الشيخ في علمه وفهمه على تحصيل العلم، وإنما رافق ذلك سعة أفق وفهم للواقع دفعه للتعامل معه بشكل دقيق وفق أسس شرعية واضحة وثابته، فلم يخلّ بضوابط الشريعة في اسقاط الأحكام الشرعية على الوقائع والنوازل، كما أنه لم ينزل أحكام وقضايا سابقة على واقع متغير ومتبدل، وبذلك حافظ على التوازن والوسطية في الفتاوى التي تصدر لها، وبالرغم من مخالفة بعض أهل العلم لفتاواه في القضايا المعاصرة والمستجدة في فترات معينة، إلا أنهم رجعوا لفتاواه وطبقوها في حياتهم في فترات أخرى، وهذا ما يظهر بعد النظرة والسعة العلمية والمعرفية لدى الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله.
- المنهجية العلمية الدقيقة في الاجتهاد، ويظهر ذلك في مناقشته للقضايا الفقهية والنوازل المستجدة وفي استنباط الفوائد الدقيقة من كتب التراث العلمي وتكوين آراءه الفقيه بناءً عليها، والمنهجية العلمية في التفكير ظهرت بشكل واضح في كتاباته، والتي تظهر ترابط الأفكار وتسلسلها كما تظهر الأسس القوية والمنهجية التي بنيت عليها مواقفه الشرعية، لذلك حتى من يخالفه في نتائجها يعجب بها ويجد أن الرد عليها يحتاج منهجية علمية مماثلة يبني عليها اجتهاده المخالف لها.
وهنا أذكر موقف طريف حدث في مرحلة الدراسة الجامعية في 2005م، حيث أحضر الدكتور المدرس لمادة الفقه كتاباً فيه مقاطع عن الدعوة إلى الله بالحسنى (أظنه كتاب ثقافة الداعية)، وكان الكتاب من غير غلاف ومن غير أسم المؤلف، وكان الكثير من الطلبة معنا من أصحاب المدرسة السلفية الجامية الذين يبغضون الشيخ رحمه الله، فبدأ الأستاذ في قراءة مقتطفات من الكتاب، وأعجب الطلبة بالكتاب أشد الإعجاب خصوصا السلفيين منهم، وطلبوا من الدكتور أسم الكتاب والمؤلف فرفض إخبارهم وقال بعد أن ننتهي من دراسته سأخبركم، فأخذ الطلاب الكتاب ونسخوه ولخصوه ونشروه بينهم وقرأوه وأعجبوا به، وفي نهاية دراسته عندما أخبرنا المدرس باسم الكتاب والمؤلف هو الشيخ القرضاوي، صدم الطلبة وكان هدف الدكتور هو إعطاؤنا دروس ومنها عدم بناء المواقف ضد الأشخاص بناءً على كلام الآخرين، ومنها كما قال الدكتور هي المنهجية العلمية التي كان يتميز بها الشيخ القرضاوي والتي جعلت كتبه محط إعجاب.
- المنطلقات المبدئية، فمنطلقات الشيخ رحمه الله في حياته كانت تقوم على مبدأ وعلى مصلحة عليا للأمة يراها في مواقفه وتصرفاته، وما يحسب له أنه يصرح بذلك في حال تغيير بعض مواقفه ولا يعتبر ذلك منقصة في حقه، فالبوصلة التي كان يسعى لها هي الحق أينما كان، كما في موقفه من قضية التقارب مع الشيعة في إيران والتي انتقده عليها الكثير من أهل العلم، حيث كان يرى إمكانية إحداث تقارب مع إيران في فترات معينة، ولكن حين وجد النتيجة سلبية أقر بخطأ ذلك الموقف وتراجع عنه ورأى في ذلك مضيعة للوقت كما صرح في كتابه "كلمات صريحة في التقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية".
والمواقف التي تدل على أن منطلقاته مبدئية كثيرة من أول أيام حياته حيث سجن مرات عديدة، وفضل الغربة لأجلها ولم يتراجع عنها إلى أن قبضه الله، فلم يساوم على دنيا ولم يبيع فتاواه لسلطان أو حاكم، وكما قال أحدهم أنه من القلة الذين دخلوا على السلطان ولم يفتنهم ذلك عن بيان الحق، فكان يدخل على الحاكم وينصحه ولكن حين يظلم أو يتجاوز على حقوق الناس فكان يبين ذلك ويوضح ويكون له موقف ثابت وظاهر، وهو ما ظهر بشكل واضح في ثورات الربيع العربي التي دعمها بلا استثناء، فكان ضد الظلم والاستبداد.
وانقلاب بعض دول الخليج على الشيخ القرضاوي أحد أهم أسبابه هو ثباته على مبادئه التي لم يحد عنها، فحين كانوا يعانون من تسلط التشدد والتعصب المنهجي والفكري كان الشيخ هو أحد أعمدة ومنارات الوسطية في نظرهم، حيث كان يكرم ويقدم في المجالس والمؤتمرات وقنوات التلفاز، ولكن حين تبدلت النظرة السياسية ناحية تبديل الدين والتفريط بثوابت الإسلام، والقمع والاستبداد، ولم يسايرهم ويجاملهم في ذلك كما فعل الآخرون، لذلك أصبح في نظرهم متشدد ومتعصب، وفي الحقيقة أن الشيخ بقي ثابت على مبادئه إلى أخر لحظة في حياته وهم الذين غيروا وبدلوا بحسب مصالح سياسية وأهواء فردية، وعندما لم يروا منه مجاملة على حساب مبادئه جيشوا الجيوش لإرهابه والطعن فيه وتشويه سيرته التي لم ولن ينالوا منها.
- الشجاعة والتسامح كان الشيخ رحمه الله لا يخاف في الله لوم لائم في قول كلمة الحق، وفي الوقت ذاته كان متسامح مع خصومه، وهو ما قذف في قلوب الناس حبه وقذف له القبول الذي شهدناه في يوم وفاته، فلم يعرف عن الشيخ أنه ألف كتاباً أو كتب مقالاً وألقى محاضرة في ذم أحد مخالفيه أو أحد خصومه، وهم الذين طعنوا فيه وألفوا الكتب وألقوا المحاضرات وكتبوا المقالات في ذمه وتكفيره، وهذا ما يدل على سماحة في الخلق ونقاء في القلب، وصدق في القول والعمل.
وصفات الشيخ رحمه الله كثيرة ولا يكفيها مقال، وإنما هذه الكلمات لتكون نقطة في بحر الشواهد التي تشهد للشيخ في الدنيا والآخرة، ولنذكر أنفسنا بنبل وسماحة ومكانة هذه القامة العلمية والإسلامية التي فقدناها، وبالرغم من الكثير من الكتابات والرسائل العلمية التي تناولت منهج الشيخ وعلمه ومكانته إلا أنني آمل أن يتصدر أحد المحيطين بالشيخ بالكتابة عنه بشيء من التفصيل، لما لها من أثر في حفظ مكانة الشيخ مع موجات مدفوعة من حملات التشويه التي تنال منه حتى بعد وفاته.