وهم الحدود
وهم الحدود
تاريخ النشر: - مقالات اقتصادية وسياسية

الحدود
في عام 948 هجري 1541 -1542م نادى الشريف محمد ابو نمي والي الحجاز التابع للدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني، نادى للجهاد ضد البرتغاليين فاستجاب له كثير من قبائل الحجاز ومن أبناء الصحابة والبادية ومن الحجاج القادمين للحج في تلك السنة، حيث كانت جيوش الدولة العثمانية منشغلة بحروب الدولة الصفوية، فجمعهم وسلم راية الحج لابنه وذهب للجهاد ومواجهة البرتغاليين وطردهم من جدة، ونتيجة لهذا النداء خرجت مجموعات من القبائل الحجازية ومن أبناء الصحابة رضوان الله عليهم إلى عمان وسواحل عمان لمواجهة البرتغاليين هناك، بالرغم من أن تلك المناطق لم تكن تحت سيطرة الدولة العثمانية المباشرة، إلا أن الرابط الأساسي بين المجاهدين القادمين من الحجاز وأهل ساحل عمان هو الإسلام، ولم تكن الحدود مانعاً لأي مسلم يريد أن يقوم بواجبه تجاه إخوانه في أي بقعة من بقاع الأرض..
وفي تاريخنا الإسلامي الكثير من الأحداث التاريخية المماثلة لهذا الحدث الذي يخرج فيه الناس نصرة لاخوانهم في أي قطر من الأقطار الإسلامية، من غير أن تمنعهم حدود أو سلطات أو ركون إلى الدنيا، فحين تعجز السلطات السياسية عن القيام بواجبها يكون واجب المجتمعات في تكوين قيادات تقود الجهاد لردع العدو عن أرض الإسلام.. هذه الروح التي تجعل المسلم يعيش مع المسلم برابط الأمة لا بروابط عرقية وجغرافية، فالوطن عند المسلم هي كل أرض يعيش فيها المسلمون.
ما الذي حدث بعد ذلك ؟
في العصر الحديث وفي مثل هذه الأزمات يغلب الحماس والعاطفة في سبيل نصرة أخوة الدين والعقيدة، ولكن يجد المتعاطفون أنهم مقيدون في سجون كبيرة تسمى أوطاناً وضعت حدودها قبل مئة سنة أو أقل، وتشكل من خلالها نظاماً جديداً في العالم، هذا النظام قيد حركة الناس وجعلهم سجناء في بقع جغرافية محددة، يدينون لها بالولاء، ولأعلامها بالتقديس، ولزعمائها بالتبجيل، وبنيت هذه القيود على أسس قومية تم تنميتها في العقل البشري لدرجة أن الإنسان صار لا يستطيع أن يتخيل أن يكون هناك نظام للدولة بغير هذا الشكل الذي حبس البشر وقيد عقولهم وأجسادهم في أفكار محصورة تحت مسميات الوطنية والقومية وغيرها من المصطلحات التي تعزز هذه القيود وتجعل الانتماء إليها فيه نوع من الفخر الذي يجعل الإنسان لا يدرك أنه في ظل عبودية من نوع حديث.
هذا النموذج نفى الإنسانية عن البشر وجعلهم عبارة عن أرقام في دفاتر الدولة، فكثير من الدول أصبحت لاتستخدم الأسماء، فالإنسان يكون إنساناً له حقوقه الإنسانية إذا كان يحمل وثيقة فيها رقم وطني وإذا فقدها بقدرة السلطة فإنه يكون في حكم العدم.
هذه المسلمات والتي تمثل قيود على البشرية في العصر الحديث إذا لم نزيلها من عقولنا أولاً، فإننا سنظل مقيدين بها، وستعزز من ضعفنا وتفرقنا كأمة ترى إخوانها في الدين والعروبة محاصرين في بقعة جغرافية لاتتجاوز 400 كم ولا يستطيع من يقف خلف الجدران العازلة أن يمدهم بالماء والغذاء والدواء فضلاً عن الدعم بالسلاح والعتاد.
وهذه الأحداث تدعونا إلى أن نتفكر في أسس الخلل الذي نعيشه في هذه الأيام، فالمشكلة أعمق من الاستبداد، وأكبر من النظم الحاكمة، لأن مشكلتنا تتمثل في الأسس الذي بني عليها هذا الواقع والذي من خلاله تسلط علينا المستبدون، وبقينا سجناء في نظام الدولة الحديثة التي لاتعترف ببشريتنا إلا بحسب ما نحمل من وثائق وهويات تثبت إنسانيتنا.. مشكلتنا عميقة ولتصحيح هذا الخلل نحتاج أن نحطم هذه الأصنام والمسلمات في عقولنا أولاً حتى نحطمها على الأرض.